نوح -عليه السلام- هو أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض؛ وذلك بعدما تحولوا إلى عبادة الأصنام وأمعنوا في الضلالة والكفر.
جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: "أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلها على التوحيد".
وقد ذكر الله -عز وجل- في كتابه أسماء الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح، مما جاء على لسان أشرافهم: {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا* وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [(23-24) سورة نوح].
وقد لبث نوح -عليه السلام- في قومه زمناً طويلاً يدعوهم إلى عبادة الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [(14) سورة العنكبوت].
950 سنة وهو يدعوهم إلى عبادة الله، ولكن لم تؤت ثمارها فيهم، فلم يؤمن برسالته إلا القليل منهم، وكان الوالد إذا بلغ ولده سن الرشد يوصيه أن لا يتبع نوحاً أبداً ما عاش، لذا توارثوا الإصرار على الشرك، وأمعنوا في العصيان، فقال نوح -عليه السلام- لقومه: إني محذركم من عذاب أليم، فاعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئاً؛ لأني أخاف عليكم إن عبدتم غيره أو أشركتم معه سواه أن يعذبكم يوم القيامة عذاباً شديداً: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [(25-26) سورة هود].
ولكن قوم نوح لم يستجيبوا لنصيحته، ولم يأبهوا لإنذار الله لهم، وأنكروا عليه أن يكون نبياً لهم: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [(27) سورة هود].
استمر نوح -عليه السلام- في دعوته، محاولاً إقناع قومه بأسلوب هين لين، وأخذ يحاورهم ويجادلهم: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ* وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ* وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ* وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْرًا اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [(28-31) سورة هود].
لم تؤثر هذه الكلمات في نفوس القوم، بل ردوا عليه في عناد: {قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ* وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [(32-34) سورة هود].
وبعد أن ضاق نوح ذرعاً بقومه لجأ إلى ربه؛ مستغيثاً به مما يلاقي من قومه من إعراض، فقال: يا رب إني دعوت قومي إلى الإيمان بك، وترك عبادة الأصنام، وقد حرصت على إيمانهم، فلم أدع مناسبة إلا وقد دعوتهم فيها، سواء في الليل أو النهار، فلم يزدهم حرصي ودعوتي لهم إلاّ تمرداً وعصياناً، ثم إني دعوتهم مرة بعد أخرى بأساليب مختلفة، فحيناً أدعوهم جهراً في مجتمعاتهم، وحيناً أنفرد ببعضهم سراً، ولا فائدة: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا* فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا* وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا* ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا* ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا* فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا* يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا* وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} [(5-12) سورة نوح].
ثم تابع نوح -عليه السلام- مخاطبة قومه لافتاً أنظارهم إلى قدرة الله -عز وجل- فوقهم، وأنه سوف يميتهم ثم يبعثهم يوم القيامة للحساب: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا* وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا* ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا* وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا* لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [(15-20) سورة نوح].
لم تترك دعوة نوح -عليه السلام- في قومه إلا أثراً ضئيلاً كما صرح القرآن: {وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [(40) سورة هود]، أما الأكثرون فقد تبرموا من دعوته وكذبوه ووصموه بالجنون وحالوا بينه وبين تبليغ رسالته بأنواع التخويف والأذى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [(9) سورة القمر]، كما هددوه بالرجم: {قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [(116) سورة الشعراء]. بعدها تبين لنوح -عليه السلام- أن هؤلاء لا ينفعهم دعوة الله -عز وجل-، وإن تركوا متمادين في ضلالهم أضلوا غيرهم عن الحق، ونشروا آثامهم، وانتقل فسادهم إلى ذريتهم بالوراثة، فهم لا يلدون إلا من كان على شاكلتهم في الكفر والفجور، عندئذٍ لجأ إلى ربه يشكو قومه: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [(117-118) سورة الشعراء].
كما دعا على قومه بالهلاك وأن لا يترك على الأرض منهم أحداً: {رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا* إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [(26-27) سورة نوح].
استجاب الله -عز وجل- لدعاء نوح -عليه السلام- وأراد سبحانه قبل أن يهلك القوم أن يهيئ له وللمؤمنين أسباب النجاة، فأمره -عز وجل- أن يصنع سفينة النجاة، وأعلمه أنه سيكون أثناء صنعها محاطاً بعنايته، ونهاه أن يدعو للكفار بالنجاة بعد أن أصروا على كفرهم؛ لأنه حكم عليهم بالغرق.
شرع نوح -عليه السلام- في صنع السفينة، وبدأ قومه يستهزؤون به بأنه قد تحول من داع إلى الله إلى نجار، ويقولون: ماذا تقصد يا نوح بهذه السفينة؟ وأين الماء الذي سيحملها وهي في البر بعيدة عن البحر؟
وكان -عليه السلام- إزاء سخريتهم يقول لهم: إن كنتم تهزؤون بي وبمن معي من الذين آمنوا، فإننا سنهزأ بكم عمّا قريب، وسوف تعلمون من سيأتيه عذاب يذله في الدنيا، كما سيحل عليه في الآخرة عذاب دائم خالد: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ* وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ* فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [(37-39) سورة هود].
انتهى نوح -عليه السلام- من صنع السفينة، وظهرت علامات بدء العذاب، وهي تفجر الماء من الأرض، فأمر الله -عز وجل- نوحاً أن يجمع من كل صنف من الأحياء والحيوانات زوجين، ذكراً وأنثى؛ ليحملهما معه في السفينة؛ لأجل أن تبقى بعد غرق سائر الأحياء فتتناسل ويبقى نوعها على الأرض، كذلك أمر الله نوحاً أن يحمل معه في السفينة جميع أهله وأقاربه باستثناء اثنين منهم كفرا بالله، وهما إحدى زوجاته وأحد أبنائه، كما أمره أن يحمل معه المؤمنين من غير أقاربه، وهم قليلون: {حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ* وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [(40-42) سورة هود]، أرسل الله -عز وجل- بعد ذلك من السماء مطراً غزيراً لم تعهد الأرض قبله، كأنه أفواه القرب، وأمر الأرض بأن تتفجر فيها المياه، فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها، فاجتمع ماء السماء وماء الأرض؛ ليحصل جرّاء ذلك الطوفان العظيم الذي قدره الله لهلاك الكافرين، والسفينة الصغيرة تسير وسط هذه الأمواج المتلاطمة بحفظ الله -عز وجل- ورعايته: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ* فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ* وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِّمَن كَانَ كُفِرَ} [(10-14) سورة القمر].
وبذلك انتهت نهاية هؤلاء الكافرين الذين لم يستجيبوا لأمر نبيهم، بل فضلوا الخضوع للأصنام عن الخضوع لرب العباد.
وفي وسط تلك الأمواج المتلاطمة تحركت عاطفة الأبوة عند نوح -عليه السلام- وتذكر ولده فناداه الأب؛ ليركب معه في السفينة؛ لينجو من الغرق، ولكن ظلمة الكفر طمست على بصيرته، وأصر على عصيانه، وظن أنه سيلجأ إلى جبل مرتفع ولن يصل الماء إليه، فلم يستجب الولد لنداء أبيه، وظن أن ما يجري عوارض طبيعية عادية، وكان يأمل أن ينجو بدون ركوب السفينة، فقال لأبيه: سألجأ إلى جبل لا يصل الماء إليه، فرد عليه أبوه: ليس هناك أية قوة تحول بين أحد وبين الغرق الذي قدره الله اليوم على الكافرين، وأبى الابن أن يستجيب لنداء أبيه، فكان من المغرقين: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ* قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [(42-43) سورة هود].
لقد ثارت الشفقة في قلب نوح على ولده، فسأل الله -عز وجل- بعد ما تحقق من هلاكه أن ينجيه الله، فأجابه الله -عز وجل- بأن ولده كافر، وأن عقيدة البراء من الكفار من أساسيات التوحيد، والذي يجب عليه أن لا يُغلِّب شفقة الأبوة على حكم الله -عز وجل-: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ* قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [(45-47) سورة هود]، وبذلك هلك الكفار من تأثير الطوفان.
بعدها أمر الله -عز وجل- الأرض أن تبلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع عن المطر، واستوت سفينة نوح -عليه السلام- ومن معه عند جبل يسمى الجودي: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [(44) سورة هود].
رست السفينة عند ذلك الجبل، وأمر الله نوحاً أن ينـزل من السفينة إلى الأرض، فهبط بأرض الموصل محفوفاً ببركات من الله هو ومن آمن معه وذرياتهم ممن سيكونون أمماً مؤمنة، وبعضهم سيكونون أمماً يستمتعون بالدنيا وخيراتها، ولكن لن ينالوا بركة الله؛ لأنهم سينحرفون عن جادة الحق، وسيغويهم الشيطان، ويؤدي بهم إلى عذاب الله في الدنيا والآخرة، {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [(48) سورة هود].
وفي نهاية القصة وجه الله خطابه إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- قائلاً: تلك القصة التي قصصناها عليك عن نوح وقومه هي من أخبار الغيب، ما كنت تعلمها أنت ولا قومك على هذا الوجه من الدقة والتفصيل من قبل هذا الوحي الذي أوحينا به إليك، فاصبر على إيذاء قومك كما صبر نوح من قبلك؛ فإن عاقبتك الفوز مثل نوح، والعاقبة الطيبة دائماً للمتقين، {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [(49) سورة هود]، وقد صدق الله وعده ونصر الله رسوله محمداً -صلى الله عليه وسلم- على أعدائه كما نصر نوحاً من قبل، وسينصر الله -جل وتعالى- أتباعهم إلى يوم الدين.
هذه باختصار هي قصة نوح -عليه السلام- ولنا معها عدة وقفات:
الوقفة الأولى:
لقد حكى القرآن لنا قصص رسل الله وجهادهم في سبيل هذه الدعوة، والمنهج الذي سلكوه، وما دار بينهم وبين أممهم وأقوامهم من صراع في سبيل هذه الدعوة، حتى أظهر الله دينه، وأعز جنده، ونصر رسله، وكانت كلمته هي العليا , وإنك لتقرأ القرآن الكريم وتقرأ قصة رسول منهم في أكثر من سورة، فتجد أن لها في كل سورة مقصداً ومغزىً وحكمةً وعبرةً وعظةً، تختلف من سورة لأخرى، وهذا من إعجاز هذا الكتاب الكريم، كيف لا يكون كذلك وهو كلام الله الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [(42) سورة فصلت]؟
ومن تتبع آيات القرآن والسنة الصحيحة عن الرسول -عليه الصلاة والسلام- في قصص هؤلاء الأنبياء رأى العجب العجاب من هذا المنهج القوي، وهذه السيرة الطيبة وهذه الدعوى الصادقة إلى دين الله، ورأى الحكم والمواعظ، ورأى المنهج المستقيم الذي يجب على كل من دعا إلى الله أن يسلكه وأن يتخذه منهجاً، كيف لا وقد قال الله تعالى لرسوله -صلى الله عليه وسلم- بعد أن ذكر له الأنبياء والرسل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [(90) سورة الأنعام]، هذه العبر والمواعظ توقظ النائم، وتنبه الغافل، وتذكر الناسي، وتأخذ بيد الحيران، وترد المنحرف، وتثبت المستقيم، وتكون زادا للسائلين، ومناراً للسالكين في هذا السبيل القويم، سبيل الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- وإنهم جميعاً بدأوا دعوتهم بالدعوة إلى توحيد الله، شعارهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [(59) سورة الأعراف]، {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [(59) سورة الأعراف]، وهكذا يجب أن تكون كل دعوة إلى الله تعالى، يجب أن تبدأ بدعوة الناس إلى عبادة الله، وإلى إفراده في العبادة؛ حتى يستسلم ذلك الإنسان لربه، فإذا استسلم قلبه واستسلمت جوارحه أصبح مستعداً لطاعة الله والرجوع إلى منهج الله، وما أكثر تقصير بعض الدعاة في هذا الجانب، وما أقل اهتمام كثير منهم بهذا الأمر العظيم الذي اهتم به رسل الله وجعلوه مفتاح دعوتهم.
الوقفة الثانية:
إن أول ما نحب أن نقف عنده في قصة نوح -عليه السلام- هو ذلك الشرك الذي من أجله بعث الله رسوله نوحاً -عليه السلام- إلى قومه، لقد كانت عبادة الأصنام والشرك منتشراً عند قوم نوح، ولخطورة هذه القضية ولسوء عاقبة المشرك، بعث الله فيهم نوحاً؛ لكي يحذرهم من الخزي الذي سوف يحل بهم في الدنيا والآخرة إذا لم يرجعوا إلى ربهم.
إن عاقبة الشرك وخيمة، والله -سبحانه وتعالى- يغار على دينه، وقد يغفر الله كل ذنب من الإنسان إلا الشرك؛ {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [(48) سورة النساء].
إن بعض الناس في وقتنا هذا قد يقولون: إن الشرك قد زال، ويتصورون أن الأصنام قد زالت وذهبت، وما عاد الناس يعبدونها منذ فتح مكة وتكسير الرسول -صلى الله عليه وسلم- الأصنام التي كانت على الكعبة وفي جوفها.
فيقال لهؤلاء: إن عبادة الأصنام قد عادت من جديد، وصار الناس في هذا الزمان يعبدون أصناماً عصرية حديثة، قدمها لنا الكهنة الجدد، بأساليب وأشكال جديدة أشد خطراً، وأعظم تأثيراً من الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح.
إن أصنام قوم نوح كانت أصناماً حسية مصنوعة من الحجر أو الشجر، أما أصنامنا نحن فأصنام معنوية أخطر بكثير من الأصنام الحسية.
إن كل شيء خضعت له فقد اتخذته صنماً لك، ومن هذه الأصنام التي انتشرت في زماننا والتي خضع الناس لها المذاهب الهدامة من مثل القومية والوطنية والديمقراطية والعلمانية وغيرها كثير، وفي كل يوم نسمع بأسماء جديدة لأصنام جديدة ما أنزل الله بها من سلطان.
إن الخضوع لهذه الأصنام نوع من أنواع الشرك بالله، فالحذر الحذر من الوقوع فيها؛ لأن عاقبة الشرك وخيمة، وليس بين الله وبين أحد من عباده نسب، والله المستعان.
الوقفة الثالثة:
الأسلوب الذي تدرج فيه الشيطان مع قوم نوح: إن الشيطان لم يطلب من قوم نوح عبادة غير الله دفعة واحدة، ولو فعل ذلك لما استجاب له أحد، لكنه تدرج معهم، فأوحى إلى قوم نوح بوجوب صنع تماثيل لأولئك الرجال الصالحين؛ تخليداً لذكراهم؛ لأن وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً، هذه أسماء رجالٍ صالحين، فأوحى الشيطان لقوم نوح بوجوب صنع أصنام بصورهم تخليداً لذكراهم، فاستجاب القوم لوحي الشيطان. وبعد جيل من الزمان بعد انقراض من تبقى من العلماء، أوحى لمن جاء بعدهم من الجيل الثاني أن آباءكم ومن سبقوكم كانوا يعبدون هذه الأصنام، فاستجابوا لوحي الشيطان ووقعوا في الشرك.
ومن أعاد النظر وتأمل في واقعنا، وجد أن جند الشيطان من شياطين الإنس يستخدمون الخطة نفسها التي رسمها قائدهم الأول مع قوم نوح.
إن أعداء الملة وخصوم الشريعة ما أفسدوا ديار المسلمين ولا أفسدوا أخلاق المسلمين وسلوكهم وتصوراتهم إلا عن طريق التدرج، وأسلوب المرحلة بعد المرحلة.
إن ما تعانيه أمتنا من انحرافات في الأخلاق، وانحرافات في التصورات، وانحرافات في نظم الاقتصاد، وانحرافات في القضايا الاجتماعية، بل الانحراف والبعد عن الإسلام في جميع شئونه، لم يحدث كل هذا دفعة واحدة، وإنما تم على مراحل.
خذ على سبيل المثال قضية المرأة، وكيف أوصل أعداؤنا المرأة في العالم الإسلامي من امرأة محافظة على نفسها وعلى بيتها، من امرأة صانعةٍ للرجال، إلى ما تشاهدونه وتسمعونه بأنفسكم من حال المرأة، فهل وصلت المرأة إلى ما وصلت إليه دفعة واحدة؟
أبداً، لقد تم ذلك على مراحل، فأول ما رفع أعداء الإسلام رفعوا شعار تعليم المرأة، وعندما تقرر لهم ذلك، وضعوا المناهج التي يريدون، وعندما تقرر لهم ذلك، زينوا للنساء المسلمات أن يتخذن من المرأة الغربية قدوة لهنّ، وعندما تقرر لهم ذلك، أخذوا ينادون بخلع الحجاب؛ لأنه قيد ولا أصل له في دين الإسلام، وعندما تقرر لهم ذلك، راحوا ينادون بالاختلاط ومساواة المرأة بالرجل في السياسة والإرث وإدارة أعمال الدولة، وعندما تقرر لهم ذلك، وضعوا القوانين التي لا ترتب على المرأة عقوبة إن زنت، ولا ندري ما هي المرحلة التي تلي هذه.
ولو تعرضت لأي قضية أخرى مما عم فيها البلاء في ديار المسلمين، رأيت أنه ما تم ذلك إلا بالتدرج وعلى مراحل، فالربا لم ينتشر في أوساط المسلمين بين يوم وليلة، وهذا الفساد العريض في وسائل الإعلام لم يحصل في يوم وليلة، وغيرها وغيـرها مما هو حاصل في مجتمعات المسلمين لم يحصل إلاّ بالتدريج، فهل لنا في قصة نوح -عليه السلام- عبرة وعظة؛ لكي نتنبه ونأخذ الحذر من شياطين الإنس وما يكيدونه لنا ليل نهار؟!
الوقفة الرابعة:
الولاء والبـراء: لقد بين الله -عز وجل- المنهج واضحاً في قصة نوح -عليه السلام- لكل مسلم، وهو أن لا تأخذه العاطفة أو تجره الشفقة تجاه القريب إلى موالاته أياً كان ذلك القريب؛ لأن الرابطة هي رابطة العقيدة، وغيرها من الروابط لا بد أن تقطع.
وقصة نوح -عليه السلام- مع ابنه يذكرنا باستغفار الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمه أبي طالب بعد هلاكه وقوله: ((والله لأستغفرن له ما لم أُنه))، فأنـزل الله تعالى قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [(113) سورة التوبة].
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي بريدة عن أبيه قال: كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحن في سفر، فنـزل بنا ونحن قريب من ألف راكب، فصلى ركعتين، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم، وقال: "يا رسول الله، مالك؟"، قال: ((إني سألت ربي -عز وجل- في الاستغفار لأمي فلم يُأذن لي، فدمعت عيناي رحمة لها من النار)).
إن الولاء والبراء من الإيمان، بل هو شرط من شروط الإيمان، كما قال تعالى: {تَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ* وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} [(80-81) سورة المائدة].
والولاء والبراء أوثق عرى الإيمان، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: ((أوْثَق عُرَى الْإِيمَان الْحُبّ فِي اللَّه وَالْبُغْض فِي اللَّه)) [رواه الإمام أحمد والحاكم].
يقول الشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب: "فهل يتم الدين أو يقام علم الجهاد أو علم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالحب في الله والبغض في الله؟ ولو كان الناس متفقين على طريقة واحدة ومحبة من غير عداوة ولا بغضاء لم يكن فرقاناً بين الحق والباطل، ولا بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان". انتهى..
فالولاء للمؤمنين يكون بمحبتهم لإيمانهم ونصرتهم، والإشفاق عليهم والنصح لهم، والدعاء لهم والسلام عليهم، وزيارة مريضهم وتشييع ميتهم، ومواساتهم وإعانتهم، والسؤال عن أحوالهم، وغير ذلك من وسائل تحقيق هذا الولاء.
والبراءة من الكفار تكون ببغضهم ديناً، وعدم بدئهم بالسلام، وعدم التذلل لهم أو الإعجاب بهم، والحذر من التشبه بهم، وتحقيق مخالفتهم شرعاً، وجهادهم بالمال واللسان والسنان، والهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وغير ذلك من مقتضيات البراءة منهم.
الكفار هم أعداؤنا قديماً وحديثاً، سواء كانوا كفاراً أصليين كاليهود والنصارى، أو مرتدين؛ قال الله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} [(28) سورة آل عمران].
فهذه حقيقة ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، وهي أن الكفار دائماً وأبداً هم أعداؤنا وخصومنا؛ كما قرر ذلك سبحانه، فقال عنهم: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [(10) سورة التوبة]، وقال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [(105) سورة البقرة]، وقال سبحانه: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [(109) سورة البقرة].
ولكي يطمئن قلبك فانظر إلى التاريخ في القديم والحديث، وما فعله الكفار في الماضي، وما يفعلونه في هذه الأيام، وما قد يفعلونه مستقبلاً.
ورحم الله ابن القيم عندما عقد فصلاً فقال: "فصل: في سياق الآيات الدالة على غش أهل الذمة للمسلمين، وعداوتهم وخيانتهم، وتمنيهم السوء لهم، ومعاداة الرب تعالى لمن أعزهم أو والاهم أو ولاّهم أمر المسلمين".
فيجب على الدعاة إلى الله تعالى أن يحققوا هذا الأصل في أنفسهم اعتقاداً وقولاً وعملاً، وأن تقدم البرامج الجادة للمدعوين من أجل تحقيق عقيدة الولاء والبراء ولوازمهما، وذلك من خلال ربط الأمة بكتاب الله تعالى، والسيرة النبوية، وقراءة كتب التاريخ، واستعراض تاريخ الصراع بين أهل الإيمان والكفر القديم والحديث، والكشف عن مكائد الأعداء ومكرهم المنظم في سبيل القضاء على هذه الأمة ودينها، والقيام بأنشطة عملية في سبيل تحقيق الولاء والبراء، كالإنفاق في سبيل الله، والتواصل واللقاء مع الدعاة من أهل السنة في مختلف الأماكن، ومتابعة أخبارهم ونحو ذلك، وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد، مقتنعين بأنهم يخوضون المعركة لله ليس لأنفسهم، ولا لذواتهم، ولا لقومهم، ولا لجنسهم، ولا لقرابتهم وعشيرتهم، إنما هي لله وحده ولدينه وشريعته.
هذا هو الموقف بين المؤمن والكافر، لا معاونة ولا مناصرة ولا مداهنة ولا مجاملة، ولا تعاون ولا تمازج ولا تميع ولا تطبيع، ولا صداقة ولا تداخل ولا شراكة ولا حتى مشابهة، وإنما هي ثلاثة خيارات لا رابع لهما، إما أن يسلموا فيكون لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وإما أن يكونوا تحت حكم المسلمين ويدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون؛ مقابل حماية المسلمين لهم، وإما الحرب الطاحنة والصراع المرير الذي جعله الله تعالى سنة الحياة بين الحق والباطل حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين.
لا بد أن تكون هذه هي العلاقة رضينا أم أبينا، فإن العداوة للمسلمين والكيد للمسلمين والغدر بالمسلمين والخداع للمسلمين هي صفات لازمة للكفار مهما كانوا وأين وجدوا، {وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [(14) سورة فاطر]، فهذا العليم الخبير ينبئك بصفاتهم وسلوكهم تجاهك أيها المسلم: {هَاأَنتُمْ أُوْلاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} [(119) سورة آل عمران]، {إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [(2) سورة الممتحنة]، {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [(105) سورة البقرة].
لقد حسدونا على كل شيء؛ {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً} [(109) سورة البقرة]، {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً} [(102) سورة النساء]، {وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} [(69) سورة آل عمران]، {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [(118) سورة آل عمران]، {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء} [(89) سورة النساء]، {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} [(8) سورة التوبة].هؤلاء هم الكفار، وهذه هي صفاتهم، سواء علينا صادقناهم وطلبنا ودهم أم عاديناهم، فالنتيجة واحدة، والصفات متأصّلة داخل نفوسهم، عداوة وحقد وبغضاء وحسد وكيد.
فما هو موقفك أيها المسلم؟ ما هو موقفك تجاه من يكرهك؟ ما هو موقفك تجاه من يعاديك ويحقد عليك؟ ما هو موقفك أيها المسلم تجاه من يضمر لك الكيد ويحمل لك الحسد؟
{بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا* الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [(138-139) سورة النساء].
الوقفة الخامسة:
من الدروس المهمة للدعاة في قصة نوح -عليه السلام-: قطع الطمع عما في أيدي الناس، وبيان أن أجره إنما يطلبه من الله، قال الله تعالى: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [(109) سورة الشعراء]، وقال تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} [(72) سورة يونس]، وقال سبحانه: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ} [(29) سورة هود]، والآيات في تقرير هذه الحقيقة كثيرة.
وهكذا ينبغي أن يكون كل داع إلى الله -تبارك وتعالى- ينبغي أن يقطع طمعه عما في أيدي الناس، وأن يرتفع بدعوته من الأرض إلى السماء؛ ليرتفع هو معها، ولترتفع هذه الدعوة، وليرتفع رأسه مع هذه الدعوة، كما كان رسل الله -عليهم الصلاة والسلام-.
وإن أهم ما ينبغي أن يحرص عليه كل من يدعو إلى الله أن يزهد في الدنيا، وأن يزهد عما في أيدي الناس.
جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: "يا رسول الله، دلني على عمل إذا عملته أحبني الله وأحبني الناس، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد في ما في أيدي الناس يحبك الناس))، وكم من دعوة حطمتها الأطماع الدنيئة، وضيعتها الأهداف الوضيعة.
الوقفة السادسة:
من السهل جداً أن نتكلم عن الصبر في طريق الدعوة، والتضحيات التي لابد أن يقدمها الدعاة في سبيل نصرة الدين، إنه كلام جميل، ولكن عندما يأتي التطبيق العملي تتبين الحقائق.
لقد مكث نوح -عليه السلام-950 سنة ليلها ونهارها، في سبيل تبليغ دين الله، إنه عدد كبير وعظيم لمن تأمله، فحياته كانت حياة شاقة مريرة، ومحنته مع قومه محنة شديدة أليمة، فقد أقام بينهم قروناً طويلة، لم ير فيها إلا آذاناً صماً، وقلوباً غلفاً، وعقولاً متحجرة، لقد كانت نفوسهم أيبس من الصخر، وأفئدتهم أقسى من الحديد، لم ينفعهم نصح أو تذكير، ولم يزجرهم وعيد أو تحذير، كلما ازداد لهم نصحاً ازدادوا له عناداً، وكلما ذكرهم بالله زادوا ضلالاً وفساداً، وظلوا في طريق الضلال سائرين، لا يلتفتون إلى دعوة نوح، ولا يبالون بتحذيره وإنذاره.
وقد مكث تسعمائة وخمسين عاماً داعياً مذكراً ناصحاً، وسلك جميع الطرق الحكيمة معهم؛ لإنقاذهم من الضلال، وإبعادهم عن عبادة الأصنام والأوثان، وكانت دعوته لهم ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ومع ذلك لم تلن قلوبهم.
إن الواحد منا لو بقي في برنامج دعوي لمدة أسبوع واحد، يقضي نصف يومه في هذا البرنامج، إنه لو فعل ذلك لرأى أنه قدم الكثير والكثير.
تتعجب من ذلك الشاب الذي يتضجر من والده، فلما قيل له: كم مكثت في دعوته ونصيحته؟ قال لي أسبوع ولم يتغير، سبحان الله! أين أنت من نوح عليه السلام؟!
وآخر: عنده ملاحظات على زوجته، فقيل له: هل قدمت لها مؤثرات دعوية؟ كم لك معها تنصح وتُعلّم؟ فقال: لي معها سنة لم يفد فيها شيء، سبحان الله أين أنت من نوح عليه السلام؟!
وتلك المرأة تعاني من ضعف الدين لدى زوجها وقلة تقواه، فتقول: تعبت منه، لا يفيد فيه شيء، يا ترى كم لكِ معه يا أختاه؟ وما هي الوسائل الدعوية التي قدمتيها له؟
إنك لو كنت تحملين همّ هدايته لتعرفتِ على وسائل التأثير فيه؛ لكي تساعديه في هدايته، فأين أنتِ من نوح عليه السلام؟!
وهناك في ذلك المسجد إمام فاضل، قدّم لجماعته شيء يسير من وقته ومن علمه، بعد صلاة العصر فقط يحدّث عليهم، وتجده يتأفف من المنكرات لدى الناس، والأخطاء عند المصلين، يا ترى كم هي الفوائد التي قدمتها لهم؟ وكم هي الزيارات التي قمت بها لهم؟ فأين أنت من نوح عليه السلام؟!
وذلك المدرس عنده 24 حصة قد بُح صوته، وينتظر بفارغ الصبر الإجازة السنوية؛ لكي يتخلص من هذا الإزعاج، أين أنت من نوح عليه السلام؟!
إنها نماذج كثيرة أيها الدعاة، إننا بحاجة أن ننظر في سير الأنبياء والمرسلين، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [(90) سورة الأنعام].
الوقفة السابعة:
في نهاية قصة نوح -عليه السلام- ما أجمل وأروع تعقيب المولى -تبارك وتعالى- لتذكير الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأتباعه إلى يوم الدين بحقائق ثابتة، وسنن لا تتغير ولا تتبدل، وما عليهم إلا أن يصبروا على ما يلاقونه من إعراض وعناد وكفر يتكرر في كل زمان ومكان، وعليهم أن يحتسبوا الأجر ويطلبوه من الله؛ لأن العاقبة للمتقين، قال الله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [(49) سورة هود].
تلك حقيقة حتمية، وسنة ثابتة لمن تذَرّعَ وتجمّل بالصبر وكان من عباد الله المتقين؛ فإن العاقبة والنتائج الطيبة في الدنيا والآخرة هي للمتقين؛ {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}
والحمد لله أولاً وآخراً، وظاهراً وباطناً، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم...