YOUCEF عضو نشيط
عدد المشاركات : 53 البلد : الجزائر
بطاقة الشخصية الورقة الشخصية: (15/15)
| موضوع: شعيب عليه السلام الثلاثاء يناير 19, 2010 11:17 am | |
| إن الحمد لله... أما بعد: أيها المسلمون، قال الله -عز وجل- في كتابه العزيز -مما قص علينا من قصة شعيب -عليه السلام- ما جاء في سورة الأعراف: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ* وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ* وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ* وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ* فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ* الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْبًا كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ* فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [(85-93) سورة الأعراف]. شعيب -عليه السلام- كان يسمى خطيب الأنبيا؛ لفصاحته وبلاغته وحسن تأديته، وهو أحد أربعة أنبياء عرب وهم: هود وصالح وشعيب ومحمد -صلى الله عليهم جميعاً- أرسله الله -عز وجل- إلى أهل مدين، وأهل مدين قوماً عرباً يسكنون مدينتهم، التي هي قرية من أرض معان من أطراف الشام مما يلي ناحية الحجاز، قريباً من بحيرة قوم لوط، وتقع مدين في ممر قوافل التجارة، وكان هذا الموقع يعطيها أهمية كبيرة ويميزها عن غيرها من المدن القريبة منها. وكان أهل مدين كفاراً يقطعون السبيل ويخيفون المارة ويعبدون الأيكة -وهي شجرة من الآيك حولها غيظة ملتفة بها- وكانوا من أسوأ الناس معاملة؛ يبخسون المكيال والميزان ويطففون فيهما -يأخذون بالزائد ويدفعون بالناقص- فبعث الله فيهم رجلاً منهم، وهو رسول الله شعيب -عليه السلام-، فدعاهم إلى عبادة الله وحده لاشريك له، ونهاهم عن تعاطي هذه الأفاعيل القبيحة من بخس الناس أشياءهم، وإخافتهم لهم في سبلهم وطرقاتهم، وحذرهم عاقبة الظلم، مؤكداً لهم أن ما يبقى من المال الحلال خير لهم من المال الذي يجمعونه من الحرام: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ* وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ* بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [(84-86) سورة هود]. ومن ضلال أهل مدين أيضاً أنهم كانوا يقعدون على الطرق يرصدون الناس الذين يأتون إلى شعيب؛ ليصدوهم عن سبيل الله، وكانوا يعيبون رسالته ويهددون المؤمنين، فكان شعيب -عليه السلام- يستنكر منهم ذلك ويذكّرهم بأن الله كثّرهم بعد قلة، وأغناهم بعد فقر: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [(86) سورة الأعراف]. ومن صور انحرافهم أيضاً: الاستهزاء؛ فقد كان القوم يستهزئون بكلام شعيب -عليه السلام-، وكانوا يقولون له: هل صلاتك هذه التي تصليها هي التي أثّرت في نفسك فجعلتك مرشداً لنا؟ تدعونا إلى ترك ما كان يعبد آباؤنا من الأصنام، وتحثنا على الامتناع عن التصرف في أموالنا كما نريد: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [(87) سورة هود]. إن أثر الصلاة كانت واضحة في شعيب -عليه السلام- وقد لاحظ قوم شعيب تأثير الصلاة عليه وعلى أتباعه، وكيف أنها غيّرت أوضاعهم، وأدّت بهم إلى التحرر من عبادة غير الله، وترك الغش في المكاييل والأوزان. نعم، لقد غيرت الصلاة نفسية أتباع شعيب؛ لأن الصلاة تهدف إلى صنع ضمير نقي في الإنسان، فتحرك فيه مشاعر التقوى والمراقبة، وتذكّره على الدوام بيوم القيامة: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} [(30) سورة آل عمران]. وقد أثّرت الصلاة في شعيب وأتباعه وجعلتهم ينكرون على مجتمعهم أفعالهم؛ لأنهم كانوا يصلون الصلاة الحقيقية كما أرادها الله عز وجل. والذي يجعلنا نحن لا ننكر على من حولنا ما نراه من فساد سلوكهم؛ ما هو إلا لأن صلاتنا -نسأل الله السلامة والعافية- حركات خالية من الخشوع والطمأنينة، صلاة جوفاء، النقص والخلل فيها كثير، ولهذا تجدهم لا ينتهون عن معاصيهم والله -عز وجل- يقول: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [(45) سورة العنكبوت]. فكم نحن في حاجة إلى هذه الصلاة التي بها يتوجه الإنسان إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فيتحرر من كل المعبودات الباطلة، ومن كل فساد استشرى وصعب علاجه. كم نحن في حاجة إلى الصلاة التي تعصمنا من الخطايا وتنهانا عن الفحشاء، وتنقلنا من هذا العالم المائج بالفتن والأوزار إلى رحاب الله. أيها المسلمون، لقد بدأ شعيب -عليه السلام- بما بدأ به إخوانه من الأنبياء: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [(84) سورة هود]، وربط مشكلات عصره بالعبودية: {يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [(84) سورة هود]، وعن غير هذا الطريق لا يكون هناك إصلاح ولا عدل ولا مساواة بين الناس. ومثل هذه المسألة ينكرها العلمانيون ومن سار على نهجهم، فيتساءل العلمانيون: ما علاقة الصلاة والصيام وعبادة الله بغلاء الأسعار والاحتكار والبطالة والرشوة؟! إن الذين حُرموا نعمة الإيمان يفكرون بمثل هذه الأفكار، ويرون بأنهم قادرن على تحقيق العدالة الاجتماعية بما يمارسونه من قوانين ومبادئ لا علاقة لها بالإيمان والإسلام، وربما نجح بعضهم في حل مشكلة غلاء الأسعار حيناً من الزمن، ولكن هذا النجاح يكون على حساب أمور أخرى تعد أشد خطراً وأكثر ظلماً من غلاء الأسعار، كالاستبداد والبطش والإرهاب. ماذا كان جواب نبي الله شعيب -عليه السلام- عندما قال له قوم: {يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [(87) سورة هود]. رد عليهم شعيب -عليه السلام-: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ* وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ* وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [(88-90) سورة هود]. نقف قليلاً عند قول شعيب -عليه السلام- في قول الله -عز وجل-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}: يؤكد شعيب -عليه السلام- لقومه أنه لا يفعل ما ينهاهم عنه، فهنا درس عظيم للمصلحين والمربين والآباء، والدعاة والوعاظ، بأن يراعي كل منهم سلوكه أشد المراعاة، كل كلمة وتصرف يصدر منه؛ فالسلوك يؤثر أكثر من الكلمات، فمهما صدر من المصلح من حكم ومواعظ بليغة تستهوي العقول فلن يكون لها الأثر الفعّال في نفوس مستمعيها إذا لم يكن قائلها هو أول العاملين بمضمونها، وأول المؤتمرين بأوامرها ونواهيها، ولهذا نجد أن الله -عز وجل- ذم قوماً أمروا الناس بالبر ولم يلزموا أنفسهم به، فقال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [(44) سورة البقرة]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ* كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [(2-3) سورة الصف]. فلننتبه لهذا الأمر -سواء كنت أباً في بيت، أو مصلحاً وداعية في مجتمعك- بألاّ يصدر منك أفعالٌ تخالف أقوالك؛ لأن الناس يتأثرون بالقدوة أكثر من غيرها، خصوصاً الآباء. فإذا كنت تريد أيها الأب من ولدك ألا يدخن -مثلاً- فلا تكن من متعاطيه أمامه، وإذا كنت تريد من ولدك ألا يكذب، فتنبه ألا يصدر منك ذلك ولو عن طريق المزاح، وإذا كنت تريد من ولدك أن يكون محافظاً على وقته مجداً في دروسه، فلا يرى أباه من الذين يسمُرون ويلهون إلى آخر الليل؛ لأنه من الطبيعي أن يتأثر الولد بوالده. ماذا لو كان هذا الأب من الذين لا يستحقون أن يُقتدى بهم، فماذا نتمنى بعد ذلك من أولادنا، فهل لنا من عبرة وعظة من نبي الله شعيب -عليه السلام- في قول الله -عز وجل-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [(88) سورة هود]. وأما الشطر الثاني من الآية: {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [(88) سورة هود]، ففيها درس آخر للدعاة والمصلحين في أن تكون رغبتهم في الإصلاح لوجه الله، بعيدة عن أي غرض دنيوي أو منفعة ذاتية، وهكذا كانت أهداف الأنبياء في مراحل التاريخ، وهذا ما جعل الفوز حليفها، وهذه هي الطريق التي يجب أن يسلكها المصلح والداعية؛ ليصل إلى النجاح. فالإصلاح المجرد من أي غاية وهوى النفس هو الذي يكتب له في النهاية النجاح والفوز؛ لأن ذلك هو رسالة الحق، والحق دائماً هو المنتصر، وأما الغايات والأهواء الخاصة فكثيراً ما تفضح نفسها فتنكفىء ويكون الخسران مآلها. وكيف لا تنتصر الحقيقة وهي التي مصدرها خالق الكون ومدبره، وهذا ما أشارت إليه الآية في ختامها: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [(88) سورة هود]. أيها المسلمون، لنرجع إلى القصة: هدد أكابر القوم شعيباً -عليه السلام- بإخراجه ومن آمن معه من القرية أو أن يعودوا في ملة القوم، فكان رد شعيب -عليه السلام- واضحاً لا لبس فيه: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ* قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [(88-89) سورة الأعراف]. وعاد قومه يهددونه بالرجم، وأنهم لم يمنعهم من ذلك حتى الآن إلا مجاملة عشيرته، وهو ليس ذا عزة ومنعة تحول بينهم وبين أن يقتلوه، وإنما هي المجاملة وحدها: {قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ* قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [(91-92) سورة هود]. عند ذلك جاء الأمر الإلهي بهلاك أهل مدين، جزاء عصيانهم، فنجى الله شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منه -سبحانه وتعالى- وأهلك الذين كفروا فأخذتهم صاعقة شديدة، صاحبتها زلزلة قوية، جعلتهم منكبين على وجوههم صرعى، وانتهى أمرهم، وزالت آثارهم حتى كأنهم لم يقيموا في ديارهم، قال الله تعالى: {وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ* كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْدًا لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [(94-95) سورة هود]، وعوقبوا أيضاً بالظلة. وأهل مدين هم أنفسهم أصحاب الأيكة الذين ذكرهم الله -جل وتعالى- في كتابه كما حقق ذلك الحافظ ابن كثير -رحمه الله-: فسلط عليهم -أيضاً إضافة إلى ما سبق من العذاب- حراً شديداً ضاقت به أنفاسهم، فخرجوا إلى البريّة؛ لعلهم يستروحون هواءً بدل الذي هم فيه، فأرسل الله عليهم سحابة أظلتهم، وهو الذي سماه الله في كتابه بيوم الظلة، فاستبشروا خيراً من هذه السحابة واجتمعوا تحتها؛ ليستظلوا بظلها فراحت ترميهم بشهب وصواعق حتى أهلكتهم وكان يوماً شديد العذاب شديد الهول: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيم* وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ* وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ* قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَمَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [(176-191) سورة الشعراء]. رأى شعيب -عليه السلام- ما نزل بقومه من العذاب والهلاك، فأعرض عنهم وقال: {لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ} [(93) سورة الأعراف]. أيها المسلمون، من التوجيهات المهمة التي تطالعنا بها قصة شعيب: الدعوة إلى الأمانة والاستقامة في البيع والشراء، وترك الغش بالمكاييل والأوزان والإفساد في الأرض؛ لأن ذلك يؤدي إلى سخط الله، والتعرض إلى العقوبة الشديدة كما فعل الله بقوم شعيب الذين أهلكهم جزاء فسادهم. أما حذر شعيب قومه بقوله: {وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ* وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [(84-85) سورة هود]. إن أكثر الدول المتقدمة تحرص أشد الحرص على ضبط المكاييل والأوزان ومراقبة السوق، وتعرّض المتلاعب للعقوبة الشديدة، والإسلام كان له السبق دائماً في إقرار الأنظمة الصالحة للمجتمعات البشرية. إن مسألة المكيال والميزان، والبيع والشراء، مسألة تستحق الوقوف عندها؛ لأنها قضية لا تتعلق بالبائع والمشتري وحدهم، بل إن آثارها لتعود على المجتمع كله؛ فإن أي مجتمع لا يُوفّى فيها المكيال والميزان ولا يلتزم كل من البائع والمشتري بأحكام الله -عز وجل- فإن المجتمع كله مهدد بالخطر وعقوبة الله تعالى، كما سمعتم ما حصل لقوم شعيب عندما لم يوفوا المكيال والميزان. نفعني الله وإياكم بهدي.... | |
|