إن الحمد لله ..
أما بعد: دخل يعقوب عليه السلام أرض مصر مع بنيه بطلب من ولده يوسف عليه السلام حين ولي وزارة مصر، وكانوا أفراداً معدودين، فآواهم يوسف عليه السلام وقال لهم: (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِين) ولمكانة يوسف عند الملك أكرم الملك أبويه وإخوانَه وأهله، وأحسن مثواهم ومكّن له في الأرض، حتى ولاّهم مناصب عالية فيها. ومضت السنون، وكثر بنو إسرائيل في مصر وزاد عددهم، وبدأ الفراعنة يحسدونهم على ما وصلوا إليه في البلاد من مناصب مع غربتهم، وبدأوا يقلقون بسبب وجود بني إسرائيل في مصر، فأخذوا يعزلونهم عن المناصب والولايات. وحدث أن رأى فرعون رؤى، فُُسرت له بأن هلاكه وذهاب ملكه سيكون على يد غلام يولد من بني إسرائيل، فاستشاط غضباً، وأصدر أوامره بذبح كل مولودٍ ذكر من بني إسرائيل، وأخذ يستخدم كبار رجالهم ونسائهم في الأعمال الشاقة، وفي ذلك يقول ربنا سبحانه: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ) ولكن الله تعالى يريد غير ما يريد فرعون، ويقدّر غير ما يقدر الطاغية، والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم فينسون إرادة الله تعالى وتقديره، ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون، ويختارون لأعدائهم ما يشاءون، ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون. والله يعلن إرادته، ويكشف عن تقديره، ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم فتيلا: (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ) ويولد موسى عليه السلام في هذه الظروف والخطر محدق به، والموت يتلفت عليه، وتحتار أمه وترجف خشية أن تتناول عنقه سكين جنود فرعون، ويوحي إليها ربها: (أَنْ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ) وهذا منتهى التحدي.
يعجز اللسان عن التعبير، والقلم عن الكتابة، في وصف حال تلك الأم الحنون. أم حائرة به خائفة عليه، تخشى أن يصل نبأه إلى الجلادين، وترجف أن تتناول عنقه السكين، ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة، عاجزة عن حمايته، عاجزة عن إخفائه، عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه، عاجزة عن تلقينه حيلة أو وسيلة، ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة. يا أم موسى أرضعيه، فإذا خفت عليه وهو في حضنك، وهو في رعايتك، إذا خفت عليه وفي فمه ثديك، وهو تحت عينيك، إذا خفت عليه (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي) إنه هنا في اليمّ في رعاية اليد التي لا أمن إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها، اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها، اليد التي جعلت النار برداً وسلاماً، وتجعل البحر ملجأ ومناماً، اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعاً أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) فلا خوف على حياته، ولا حزن على بعده (وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ) وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.
لقد سمعت الإيحاء، وألقت بطفلها إلى الماء، ولكن أين هو يا ترى؟ وماذا فعلت به الأمواج؟ ولعلها سألت نفسها: كيف؟ كيف أمِنَت على فلذة كبدها أن تقذف به في اليمّ؟ كيف فعلت ما لم تفعله من قبل أمّ؟ كيف طلبت له السلامة في هذه المخافة؟ وكيف استسلمت لذلك الهاتف الغريب؟ والتعبير القرآني يصور لنا فؤاد الأم المسكينة صورة حية في قوله تعالى: (فَارِغًا) لا عقل فيه ولا وعي، ولا قدرة على نظر أو تصريف! (إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) وتذيع أمرها في الناس، وتهتف كالمجنونة: أنا ضيعته، أنا أضعت طفلي، أنا ألقيت به في اليمّ اتباعاً لهاتف غريب!. (لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا) وشددنا عليه، وثبتناها، وأمسكنا بها من الهيام والشرود، (لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) المؤمنين بوعد الله، الصابرين على ابتلائه، السائرين على هداه. فتحققت البشارة برجوع موسى عليه السلام إلى أمه الحائرة الخائفة الفارغة الذاهلة المتلمسة لأخباره صباح مساء. ما أعظم فرحتك يا أم موسى بموسى! هل الأمر حقيقة أم خيال؟ عيون تدمع من الفرح، وصدر يضمه من الفرح، وثغر يقبله من الفرح، وثدي يرضعه من الفرح، وقلب ينبض من الفرح، ونفس مطمئنة من الفرح، وأيدٍ ترتعش من الفرح، وأرجل تميس من الفرح. ما أرحمكَ يارب بعبادك! وما أحلمك يارب بعبادك! وما أكرمك يارب بعبادك! من دعاك أجبته، ومن استغفرك غفرت له، ومن سألك أعطيته، ومن استعاذك أعذته، ومن توكل عليك كفيته، ومن خاف منك أمَّنته، ومن استنصرك نصرته، ومن استجارك أجرته، ومن تقرب إليك شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرّب إليك ذراعاً تقربت إليه باعاً، ومن أتاك يمشي أتيته هرولة. لقد لجأت أم موسى إلى الله تعالى فربط الله على قلبها، وهدّأ من روعها، وكادت تبدي بخبر موسى لولا وعد الله لها بأنه سيعيده إليها، وسيكون زيادة على ذلك من المرسلين. قال الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنَّا رَادُّوهُ إلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْـمُرْسَلِين) وقال تعالى: (فَرَدَدْنَاهُ إلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُون).
هل يعقل أن طفلاً رضيعاً يقتحم النهر ويعبره؟ مع أن النهر فيه من المخاوف ما الله به عليم، لكن رعاية الله سبحانه تحيط به وتحفظه من بين يديه، ومن خلفه، ومن فوقه، ومن تحته، ومن أمامه، ومن ورائه، فلا يصل إليه مكروه، فأوحى الله إلى أمه وحي إلهام أن ترضعه، وألاَّ تخاف ولا تحزن، فإذا شعرت أن زبانية فرعون قادمون إليها فعليها أن ترسله، بل تقذفه في اليم بدون تردد، ولا خوف، ولا وجل، وبَشَّرها مع ذلك بعودته إليها، وأنه سيكون من المرسلين.
وعَبَرَ الرضيع النهر يتقاذفه الموج من هنا وهناك، ويسوقه وهو في بطن ذلك التابوت في هدوء وسكون، وفي راحة وطمأنينة قدرية، ليس له حيلة ولا بصيرة مما هو فيه، لا عقل يفكر به، ولا بصر ينظر به، ولا سمع يميّز به، ولا لسان يعبر به، ولا يد يبطش بها، ولا رجل يمشي عليها، كل هذه الجوارح مسلوب العمل بها، لكونه لا زال في المهد رضيعاً، لكن عناية الله ورعايته ورقابته تحيط به وتحفظه من كلّ شيء، وصدق الله: (لِّكُلِّ نَبَأٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُون). ساقته عناية الله بلطف وهدوء وهو يسبح في تابوته على سطح اليمّ إلى شاطئ قريب من بيت فرعون وجنوده، فاستقبلته الجواري اللاتي يخدمن زوجة فرعون، وحملن التابوت بما فيه دون أن يكشفنه إلى سيدتهنّ، فلما كشفن عنه، هيأ الله له في قلب امرأة فرعون المحبة والإجلال، ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، ولكن كيف تتعامل مع زوجها الظالم القاضي بذبح كل مولود ذكر في ذلك العام؟ هل تخفيه عن العيون وتتستر عليه؟ إنها لا تستطيع ذلك، لأن أمره قد ذاع وانتشر في أوساط الجند والحاشية. إن بيوت الجبابرة قد يوجد فيها الاختراق، إمّا من داخلها أو من خارجها، وإذا قَوِيَ التوكل على الله لدى الإنسان قويت عزيمته، وإذا أخذ بالأسباب الشرعية في الوصول إلى الأهداف فإن الله تعالى يسهّل له الطريق، ويلين له القلوب، ويجعل الله له مع العسر يسراً، انظر إلى ما هيأه الله لهذا الرضيع وهو في المهد، لا يعرف توكلاً، وليس له عزيمة ولا قدرة، ولا يعرف وسيلة ولا هدفاً ولا غايةً، وهو في قبضة من يريد ذبحه والتخلص منه، وليس لديه أيّ تردد في ذلك، وهو داخل داره، وبين جنوده وغلمانه، ومع ذلك هيأ الله له من يعطف عليه، ويدافع عنه، ويجادل فرعون في أمره وهو لا يشعر بذلك، فأصبح عدواً وحزناً لفرعون في داخل داره، ومع ذلك صرف الله عنه بطش فرعون وظلمه وطغيانه، ومع إصرار زوجة فرعون ودفاعها عن الاعتداء على ذلك الطفل، استجاب فرعون لها، مع تخوفه منه وكرهه لذلك، واستنفرت خدمها للعناية بموسى عليه السلام، فكلّفتهم البحث عن المرضعات لكي يقمن بإرضاعه وإطعامه، فحضرن وحاولن أن يرضعنه، لكنه امتنع عن ذلك، فلم يلقم ثديا ًعلى الإطلاق، لأن الله تعالى حرّم ذلك عليه لحكمة يريدها سبحانه. (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْـمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُون) ورجـع موسى إلى الحضن الذي فارقه، وإلى اليد التي تلقته وحملته، وإلى العين التي دمعت عليه وودعته، وإلى الثغر الذي قبّله ولثمه ثم فارقه، ثم عاد إليه مرة ثانية، كيف فرحتك يا أم موسى برضيعك البحّار، وصغيرك الغائب؟.
وهكذا نشأ موسى عليه السلام وترعرع بين أحضان أمه، وتحت رقابة زوجة فرعون آسية التي هيأها الله تعالى لحمايته ورعايته ورقابته والدفاع عنه بالليل والنهار، فصرف الله بسببها عن موسى ظلم الظالمين، وكيد الخائنين، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
بعدها أُعلنت الطوارئ، وصدرت الأوامر بذبح المواليد، تخوّفاً من واحد سيكون هلاك فرعون على يده، ومشيئة الله تنفذ، فَيَصِل الغلام نفسه إلى فرعون، مجرداً من كل قوة ومن كل حيلة، عاجزاً عن أن يدفع عن نفسه أو حتى يستنجد، وكأنها تقول له: يا فرعون! لا تتعب نفسك في البحث عن هذا الغلام الذي سيكون ذهاب ملكك على يده، فها هو بين يديك، فإن كان لك كيد أو تدبير فاصنع ما تريد. وإذا بفرعون نفسه يبحث لموسى عن المراضع، ويأتيه بهنّ واحدة بعد الأخرى حتى آل إلى أمه (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) ويتربى موسى في قصر فرعون تحت رعايته وإشرافه، وفرعون يوفر له كل احتياجاته (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ) وتنتهي مدة الرضاع وفترة الصِبا، ويبلغ موسى أشده، ويستوي عوده، ويكتمل نضجه، وبينما موسى يتجول في المدينة في وقت الظهيرة حين تغفوا العيون (فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ) فأجمعوا أمرهم ليقتلوه، فنصحه ناصح بالخروج من البلاد (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ) حتى دخل مدين، وبينما نبي الله موسى عليه السلام ماشياً في طريقه إلى مدين، وقبل أن يصل إلى تلك المدينة، وجد في طريقه ماءً يسمى ماء مدين، يَرِدُ إليه الناس يسقون رعاءهم، ويروون غليلهم، وإن منظر الرعاة وهم يسقون رعيتهم من الماشية لَيُثيرُ الدهشة لمن ينظر في أمرهم، ويشاهد حالهم. ولقد لفت انتباه نبي الله موسى عليه السلام من تلك الأمة المجتمعة على السقي، وقد ابتعد عنهم، امرأتان تذودان غنمهما عن ذلك المجتمع، فلا تزاحمان القوم في السقي، وتنتظران صدورهم حتى تتمكنا من السقي بدون مزاحمة ولا مشادة، حياءً وخجلاً من مزاحمة القوم، أو ضعفاً وعدم قدرة على ذلك، وكلاهما من طبيعة المرأة. فالمرأة العاقلة تقدر وتحترم نفسها ومن وراءها، فكيف إذا كانت من بيت عزّ ومكانة كهاتين المرأتين؟. فإن مزاحمة المرأة للناس في منتدياتهم، وفي قضاء حوائجهم ليس من طبيعتها، بل إذا حصل منها شيء من ذلك فإنه سلوك مشين، وخارج عن طبيعتها التي خلقها الله عليها. ولقد رحم نبي الله موسى عليه السلام تلك المرأتين اللتين ابتعدتا عن مزاحمة الرعاة، ولما سألهما موسى عليه السلام عن سر بعدهما عن الرعاء؟ أجابتا بأمرين:
الأول: أنهما لا يسقيان أصلاً حتى يصدر الرعاء.
الثاني: أن أباهما شيخ كبير.
ويبدو والله أعلم أن أباهما رسم لهما الخطة في السقي، فلكونه لا يستطيع أن يرد معهما الماء لمساعدتهما في السقي، ولعدم وجود محرم لهما أرشدهما إلى التريث، والبعد عن المزاحمة للرعاء حتى يصدروا، ثم تردان بعدهم الماء، فطبقتا ذلك، وربما يكون ذلك التصرف صادراً منهما لرجاحة عقليهما، وتغلب الحياء والخجل عليهما، حتى لا تقعان في مزاحمة الرعاة، فلله درهما، وشكر الله سعيهما. وهكذا شأن المسلمات المؤمنات القانتات السائحات، يغضضن من أبصارهنّ، ويحفظن فروجهنّ، ويبتعدن عن مواطن الرجال في أي مكان كنَّ.
تقدم موسى عليه السلام إلى الماء، وكشف الغطاء عنه، وأدلى دلوه، ونزع لهما من الماء، وسقى لهما، وعاد إلى الظل مناجياً ومنادياً ربه في خضوع وافتقار، وسكون وانكسار. إن هذه المبادرة من نبي الله موسى عليه السلام في إعانة الضعيف ومساعدته في قضاء حاجته لهو خلق عظيم حثّ عليه الدين الحنيف. إن موسى عليه السلام خرج من مدينته خائفاً يترقب، ومن كانت هذه حاله فإنه يبحث عن مكان خفي لا يراه الناس، ولا يحب أن يروه حتى لا ينكشف أمره خشية أن يدلّوا عليه أعداءه، لكن موسى عليه السلام يبادر إلى فعل الخيرات، ويساعد المحتاج، ويعين الضعيف على قضاء حاجته، مفوضاً أمره إلى خالقه ومتوكلاً عليه، ومعترفاً بضعفه وفقره. وهكذا يجب على الذين يقتدون برسل الله الكرام عليهم الصلاة والسلام وينتهجون نهجهم، ويسيرون على طريقهم غير عابئين بالعوائق والعقبات التي يلاقونها في طريقهم إلى الله تعالى. (وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنْ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنْ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَةَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّالِحِينَ، قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) وقضى موسى أبر الأجلين وأوفاهما، ثم استأذن صهره في الرجوع إلى مصر! مصر التي قَتل فيها رجلا بالأمس! مصر التي خرج منها خائفاً يترقب! ترى هل نسي ما كان منه؟ هل نسي أن لهم عنده ثأراً؟ إنها إرادة الله! إنه القدر الذي ذكّر الله به موسى حين قال له: (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَامُوسَى) وفي الطريق اشتد البرد، وفقد النار، وضل الطريق، وبينما هو في هذه الظروف القاسية (إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) فأتى موسى هذه النار فإذا هي نور عظيم، وعندها خير كثير: (فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَامُوسَى، إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى، وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى، إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) وبهذا نُبئ موسى، وأُرسل حين قال له ربه: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) وموسى يعرف من هو فرعون، فسأل ربه العون: (قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي، وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي، يَفْقَهُوا قَوْلِي، وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي، هَارُونَ أَخِي) لقد طلب إلى ربه أن يشرح له صدره، وانشراح الصدر يُحوِّل مشقة التكليف إلى متعة، ويحيل عناءه لذة، ويجعله دافعاً للحياة. وطلب إلى ربه أن ييسر له أمره، وتيسير الله للعباد هو ضمان النجاح، وإلا فماذا يملك الإنسان بدون هذا التيسير؟ ماذا يملك وقواه محدودة، وعلمه قاصر، والطريق طويل وشائك ومجهول. وطلب إلى ربه أن يحل عقدة لسانه فيفقهوا قوله، وقد روي أنه كانت بلسانه حبسة، والأرجح أن هذا هو الذي عناه، ويؤيده ما ورد في قوله: (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا) وقد دعا ربه في أول الأمر دعاءً شاملاً بشرح الصدر وتيسير الأمر، ثم أخذ يحدد ويفصل بعض ما يعينه على أمره وييسر له تمامه. وطلب أن يعينه الله بمعين من أهله، هارون أخيه. فهو يعلم عنه فصاحة اللسان، وثبات الجنان، وهدوء الأعصاب. لقد أطال موسى سؤله، وبسط حاجته، وكشف عن ضعفه، وطلب العون والتيسير والاتصال الكثير، وربه يسمع له، وهو ضعيف في حضرته، ناداه وناجاه. فها هو ذا الكريم المنان لا يُخِجلُ ضيفه، ولا يرد سائله، ولا يبطىء عليه بالإجابة الكاملة: (قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) هكذا مرة واحدة، في كلمة واحدة. فيها إجمال يغني عن التفصيل، وفيها إنجاز لا وعد ولا تأجيل، كل ما سألته أعطيته، وفيها مع الإنجاز عطف وتكريم وإيناس بندائه باسمه (يَامُوسَى)، وأيّ تكريم أكبر من أن يذكر الكبير المتعال اسم عبد من العباد. بعدها قال الله له: (اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي، اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) فالقول اللين لا يثير العزة بالإثم، ولا يهيج الكبرياء الزائف الذي يعيش به الطغاة، ومن شأنه أن يوقظ القلب فيتذكر ويخشى عاقبة الطغيان. وإذا كان موسى هو النبيّ المعصوم المؤيد بقوى السماء مأموراً بالقول اللين، فما بال غير المعصومين وغير المؤيدين يغلظون القول، ويقسون على المدعووين، أهم خير أم موسى؟ وهل من يدعونهم شر من فرعون؟ فرفقاً بالناس معاشر الدعاة! فما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، ومن يحرم الرفق فقد حرم الخير كله. أما قرأتم وسمعتم قول الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
ويأخذ موسى أخاه هارون ويتوجهان إلى فرعون، ويبدأ موسى الكلام فيقول لفرعون: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هكذا من أول لحظة، ليُشعِر فرعون أنه ليس رباً ولا إلهاً، وأنه مربوب لرب العالمين الذي يجب أن يتخذه إلها يعبده. ويعجب فرعون وهو يرى موسى يواجهه بهذه الدعوى الضخمة: (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ويطلب إليه ذلك الطلب الضخم: (أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) فإن آخر عهده بموسى أنه كان ربيباً في قصره منذ أن التقطوا تابوته، وأنه هرب بعد قتله للقبطي. فما أبعد المسافة بين آخر عهد فرعون بموسى، وهذه الدعوى الضخمة التي يواجهه بها بعد عشر سنين، ومن ثم بدأ فرعون متهكماً مستهزئاً مستعجباً: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ) فهل هذا جزاء التربية والكرامة التي لقيتها عندنا؟ بأن تأتي اليوم لتخالف ديننا ولتخرج على الملِك الذي نشأت في بيته، وتدعو إلى إله غيره؟! ولقد قتلت نفساً بالأمس وأنت من الكافرين برب العالمين الذي تقول به اليوم؟! فما الذي حدث؟! ويردّ موسى في ثبات وثقة وطلاقة لسان: (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنْ الضَّالِّينَ، فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُرْسَلِينَ، وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وعندئذ عدل فرعون عن هذه المسألة، وراح يسأله عن صميم دعواه، ولكن في تجاهل وسوء أدب في حق الله. (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمْ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمْ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهًَا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) فسُقط في يده، ورأى أنه لابد أن يستمع لبرهانه، فطلب منه أن يأتي بالدليل: (قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنْ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) وأحس فرعون بضخامة المعجزة وقوتها، فأسرع يقاومها ويدفعها وهو يحس ضعف موقفه، ويكاد يتملق الملأ من حوله، ويهيج مخاوفهم من موسى وقوله، ليغطي على وقع المعجزة المزلزلة: (قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ، يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) فأشاروا عليه أن يأخذ من موسى موعداً يجتمع فيه السحرة من كل مكان، ويقابلون سحر موسى بسحرهم، فمن غلب اتبعوه، والأمر مفصول فيه أن السحرة هم الغالبون، فخَيّب الله سعيهم، وأبطل كيدهم، وجعل نبيه موسى هو الأعلى: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) فجن جنون فرعون وأخذ يهدد ويتوعد، ولكن بشاشة الإيمان إذا خالطت القلب لم يعبأ بأية تهديد، ولذا قال المؤمنون كلمتهم بكل جرأة وثبات: (قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ) لا ضير في تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، لا ضير في التصليب والتعذيب، لا ضير في الموت والاستشهاد، لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون، وليكن في هذه الأرض ما يكون، فالمطمع الذي نتعلق به ونرجوه أن يغفر لنا ربنا خطايانا جزاء أن كنا أول المؤمنين. وهنا تدخل الملأ، أهل الأهواء والمصالح والمطامع، تدخلوا ليهيجوا فرعون على موسى ومن معه، ويخوفونه عاقبة التهاون في أمرهم، فطمأنهم فرعون بأنه سيحكم القبضة، ويعيد العمل بقانون الطوارئ، فيقتل الذكران ويستحي النساء. وأخذ موسى يعظ قومه وينصحهم بالصبر حتى يأتي أمر الله، (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ). إنّ البلاء يقع على الفرد والجماعة، ويتفاوتون في درجاته، لكنّ الذي وقع على بني إسرائيل كان من أعظم البلاء، كما قال تعالى: (وَإذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيم). لكن الله هيأ له من يرعاه، ويدافع عنه، ويتولى شؤونه على مرأى ومسمع من فرعون وجنوده وهم لا يشعرون.
ومضى فرعون وملؤه في جبروتهم، ومضى موسى وقومه يتحملون العذاب ويرجون فرج الله، وعندئذ يأتي أمر الله جل وتعالى، فأُخِذَ آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذّكرون، ثم جاءت الإنذارات تترا (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) ثم أعلنوها صريحة: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) وأدرك موسى أن لا فائدة ترجى من القوم، وأنهم مصرون على الكفر والفساد في الأرض (فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) فأوحى الله إليه: (فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) فإذا عبرت أنت ومن معك فاترك البحر رهواً - أي ساكناً - كما هو إغراء لفرعون بالعبور، فإنهم قوم مغرقون. وفي الليلة الموعودة خرج موسى ببني إسرائيل، وعلم فرعون بخروجهم فجمع الجموع وخرج في طلبهم (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ، فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ، قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِي، فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) أي كالجبل العظيم، وصار البحر إثني عشر طريقاً لكل سبط طريق، وأمر الله الريح فنشّفت أرضه، وهذا هو قوله تعالى: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) وجاوز بنوا إسرائيل، فلما خرج آخرهم كان فرعون قد انتهى إلى شاطئ البحر، فوقف متردداً أيعبر خلفهم؟ أم يرجع وقد كُفيهم؟ فجاء جبريل عليه السلام على فرس فمر إلى جانب حصان فرعون فحمحم إليها واقتحم جبريل فاقتحم فرعون وراءه، وميكائيل في ساقتهم، لا يترك منهم أحداً إلا أقحمه، حتى إذا كانوا في البحر جميعاً جاءهم الموج من كل مكان وجعل يرفعهم ويخفضهم، وتراكمت الأمواج فوق فرعون، وجاءته سكرة الموت فنادى: (لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ) فقيل له: (أَالْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال لي جبريل: لو رأيتني وأنا آخذ من حل البحر فأدسّه في فيّ فرعون، مخافة أن تدركه الرحمة". وهكذا أنجى الله موسى والمسلمين، وأغرق فرعون والكافرين: (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا) (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).
هذا باختصار شديد، قصة موسى عليه السلام مع فرعون، ولنا معها عدد من الدروس والوقفات المهمة:
أولاً: أن نور الله مهما حاول المجرمون طمس معالمه، وأن الطغاة وإن أثّروا في عقول الدهماء فترة من الزمن واستمالوهم بالمنح والعطايا فإن القلوب بيد الله يصرفها كيف يشاء، تأملوا في حال فرعون وسحرته، وكم وُعدوا لقاء مواجهتهم موسى، ومع ذلك انقلبوا فجأة عليه، واستهانوا بما وَعد به حين أبصروا دلائل الإيمان، ولاذوا بحمى الملك الديان، فكانوا أول النهار سحرة، وآخره شهداء بررة (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ، قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ، قَالُوا يَامُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ، قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ، فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ، وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ، قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ) إنه موقف من المواقف الحاسمة في تاريخ البشرية، هذا الموقف بين فرعون وملئه، والمؤمنين من السحرة السابقين، وإنه موقف حاسم ينتهي بانتصار العقيدة على الحياة، وانتصار العزيمة على الألم، وانتصار الإنسان على الشيطان. وليس هذا أول خرق في سفينة فرعون، فقد كان في بيته مؤمنون، ومع ضعف النساء فقد تحدّت آسية امرأة فرعون زوجها، وشمخت بإيمانها، ولم تفتنها الدنيا ومباهجها. وضرب الله بها مثلا للمؤمنين وقالت (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنْ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) ووُجد في آل فرعون مؤمنون ناصحون رغم العنت والأذى: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ).
ثانياً: عاش المسلمون أيام فرعون ظروفاً عصيبة ملؤها الخوف والأذى، ووصل بهم الأمر أن يُسِرّوا بصلاتهم ويتخذوا المساجد في بيوتهم، قال الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّأَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ) قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: لا نستطيع أن نُظهر صلاتنا مع الفراعنة، وأذن الله لهم أن يُصلّوا في بيوتهم. وفى ظل هذه الظروف العصيبة أُمر المسلمون بالصبر عليها والاستعانة بالله على تجاوزها بالوسائل التالية: منها:
- الصبر والصلاة: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا) وقال لهم ولغيرهم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) فالصلاة سمة المسلم حين الرخاء وحين الشدة والضراء.
- ومنها: الإيمان بالله والتوكل عليه: ضروري للمسلم في كل حال، وهما في حال الشدة عُدّة (وَقَالَ مُوسَى يَاقَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ).
- ومنها: الدعاء وصدق اللجوء إلى الله: يصنع أملاً من الضيق، وفيه فرج من الكروب، وخلاص من فتنة الظالمين، ونجاة من الكافرين. (فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
ومع ذلك فلا بد من الاستقامة على الخير وعدم الاستعجال في حصول المطلوب، فذلك أمر يقدره الله أنى شاء وكيف شاء (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ).
ثالثاً: إن الصراع مهما امتد أجله، والفتنة مهما استحكمت حلقاتها فإن العاقبة للمتقين. لكن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة واستعانة بالله صادقة: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) أجل، فلا ينبغي أن يخالج قلوب المؤمنين أدنى شك بوعد الله، ولا ينبغي أن يساورهم القلق وهم يصبرون على الضراء، ولا ينبغي أن يخدعهم أو يغرهم تقلب الذين كفروا في البلاد فيظنوه إلى الأبد، وما هو إلا متاع قليل، ثم يكون الفرج والنصر المبين بإذن الله.
رابعاً: لما خرج موسى عليه السلام من مدينته وهو خائف يترقب، بعد أن عَلِم عِلم اليقين أن القوم يبحثون عنه، وقد عقدوا مؤتمرهم للقضاء عليه، وجاءه الناصح بذلك الخبر، شد عزمه، وخرج من مأزره، وطلب من ربه أمرين عظيمين:
الأول: طلبه النجاة من الظالمين: (فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِـمِين).
الثاني: طلبه أن يرشده ويهديه إلى الطريق المستقيم: (وَلَـمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيل).
إن اللجوء إلى الله تعالى في حالة السراء والضراء هو المطلوب، لأن الله سبحانه هو مسبب الأسباب، ومقدر الأمور، وبيده مقاليد كل شيء.
إن البشر مهما أعطوا من القوة، ومهما أعدوا من العدة، فإنهم لا يساوون شيئا أمام قدرة الله وعظمته، فالخلق خلق الله، والأمر أمره. وإن نبي الله موسى عليه السلام لجأ إلى قوة ما بعدها قوة، وإلى رعاية ما بعدها رعاية، وإلى رقابة ما بعدها رقابة، وإلى إرادة ما بعدها إرادة، لجأ إلى الله تعالى، ونعم بالله، ما خاب من دعاه، ولا خاف من توكل عليه، ولا ذل من لاذ بجانبه. إن الظالمين نسوا قدرة الله، وظنوا أنهم خارجون من قبضة الله سبحانه، إنهم في غيهم يعمهون، وفي ظلالهم يسدرون، إنهم جاهلون بحقيقة أنفسهم، ومن كان حاله كذلك، فهو ظالم لنفسه ولغيره. ولذا يجب الحذر منهم، وكشف حالهم، والبعد عن العيش في كنفهم، فإنهم لا يزيدون الناس إلا ضلالاً وتباراً. وعلى المسلم أن يدعو ربه أن يوفقه في أقواله وأعماله، وأن يهديه إلى الطريق، والسبيل القويم، فإنه لا يهدي لذلك إلا هو سبحانه، ويجب أن يكون هذا ديدن المسلم، ويزداد ذلك في حالة الكرب والشدة، كما فعل نبي الله موسى عليه السلام.
خامساً: إن من يرتكب خطيئةً مهما كانت فإنه يصبح ضعيف الموقف، خائف النفس، وهذا يؤخذ من موقف موسى عليه السلام لما اقترف تلك الخطيئة وهي قتل القبطي، فأصبح خائفاً من أن ينكشف أمره لأولئك القوم الذين يتربصون به، فكم حاولوا قتله والتخلص منه، فكيف وقد وقع منه ما يسئ إليهم؟ فعلى العاقل أن يصون نفسه من الوقوع في الزلات، حتى يكون عزيز الجانب، مطمئن النفس وإن ظُلِم كما حصل لنبي الله يوسف عليه السلام.
سادساً: لقد سبق في علم الله تعالى الأزلي أن فرعون لا يؤمن، ومع ذلك أمر عبديه ونبييه موسى وهارون عليهما السلام أن يذهبا إليه ويترفقا به في الحوار والنقاش لعله يتذكر أو يخشى، كل ذلك من أجل أن يرسما طريقاً في الدعوة إلى الله تعالى لمن يأتي بعدهما، من إلانة في القول، وترفق بالآخر، والصبر على المعاناة في الطريق من القريب والبعيد، والصديق والعدو، والأخذ بالأسباب، وعدم اليأس أو القنوط، فإن القلوب علمها عند الله تعالى يصرفها ويقلبها كيف يشاء.
سابعاً: إن الحق قد ينتصر بجهد الضعفاء قبل جهد الأقوياء، فلا يحقرن الإنسان أيّ جهد يقوم به، فإن مؤمن آل فرعون، وأخت موسى، وأم موسى، وآسية امرأة فرعون، كانوا ضعفاء، ومع ذلك قاموا بأدوار عظام في نصرة الحق.
والحمد لله أولاً وآخراً ..